المطلب الثالث : السياسة الفرنسية في المنطقة.
لقد كان الرفض الوجود الاستعماري منذ البداية هو سيد الموقف، وذلك على الرغم من الإغراءات والدعايات المروجة من قبل الاستعمار واعوانه، خاصة التأكيد على فرنسا جائت لاكتشاف المنطقة ووضع قاعدة عسكرية لمراقبة وحماية الحدود فقط.
لكن السياسة الفرنسية بدأت تتضح ملامحها الاستطانية مع أول قرار أصدره العقيد ترينقو، والذي يقضي بمصادرة أسلحة القبائل وإجبار أبناء الأهالي على الانخراط في صفوف المهاريسة مما زاد من غضب السكان وإصرارهم على حمل السلاح ضده، وقد كانت هذه الفترة تشهد توترا على الصعيد العالمي، خاصة مع اعلان الحرب العالمية الثانية، وقد انتشرت حملات التوعية والاستنفار ضد الاستعمار في مناطق الصحراء، كما كانت هناك حملة إعلامية تمارسها المخابرات الألمانية واعوانها في الصحراء انطلاقا من ليبيا
كذلك حاول الاستعمار جاهدا لتغطية التعسفات التى كان يمارسها على سكان المنطقة إعادة إحياء ما يسمى بالمقار الذي كان يطلق عليه "الملقى " من طرف السكان المحليين، وهو سوق كان يجتمع فيه التجار من السودان الغربي والمغرب الأقصى وموريتانيا، وهذا لإنعاش المنطقة من الناحية الاقتصادية وحماية القوافل من اعتداءات المتمردين والتحكم في السكان
كما انشأت الادارة الفرنسية المكاتب العربية التي يديرها العسكريون وبمشاركة بعض الاعيان، وكانت تدعمها القيادة العسكرية وفرقة المهارية في اداروة شؤون منطقة تندوف العسكرية، وعلى الرغم من الغاء النظام العسكري عام 1947 الا ان المنطقة لم تعرف تخفيفا من الرقابة العسكرية التي ظلت تحكم المنطقة بقبضة من حديد،
المبحـث الثاني : مشاركة مناضلي المنطقة في الكفاح السياسي.
المطلب الأول : عوامل قيام نشاط الحركة السياسية .
إن البعد الجغرافي الكبير وسياسة العزلة لم تمنع التند وفيين من القيام بواجبهم الوطني على غرار باق مناطق الوطن, فرغم موقعها الواقع في أقاصي الجنوب, والبعد الجغرافي الذي يفصل مناطق الجنوب والشمال, فقد تحدى الشباب التندوفي كل هذه الصعاب الجغرافية واستطاع أن يثبت وجوده داخل كنف الحركة الوطنية في منتصف الأربعينيات، وهو امر يـثير الدهشة والاستغراب لدى الكثيرين بحكم بعد المنطقة, لكنها الحقيقة الثابتة والمتجذرة في التاريخ، وهذا كله مع عدم وجود طرق معبدة ولا وسائل نقل بينها وبين المناطق الأخرى .
لقد كان انتساب الشباب التندوفي إلى الحركة الوطنية ممثلة في حركة الانتصار للحريات الديمقراطية تكذيب قاطع لمزاعم بعض الجهات المشككة في جزائرية تندوف، فلقد شاركت هذه المنطقة في الحركة الوطنية والثورة التحريرية كما سنعرف، وخاضت معارك خلدها التاريخ .
لقد عرفت الحركة الوطنية الجزائرية أوج نشاطها عشية الحرب العالمية الثانية، حيث وصلت إلى مناطق الصحراء الخاضعة للنظام العسكري، وذلك بمساهمة من ابناء المنطقة بعد اتصالهم بمناطق الشمال أو من خلال وفود الاحزاب الوطنية، والسؤال الذي يطرح في هذا الباب هو : كيف استطاعت الحركة الوطنية ان تثبت اقدامها في هذه المنطقة وما تأثير ذلك على انتشار الوعي الوطني ؟
في بداية الاربعينات كان العالم بأسره يعيش الحرب الكونية الثانية، والتي شاركت فيها الدول الكبرى بإرادتها واقحمت فيها المستعمرات رغما عنها, وقد ازدادت اهمية الصحراء في هذه الحرب، وتسنى لتندوف ان تتأثر ايما تأثر بنزول الحلفاء، فقد أقام الأمريكون بها قاعدة جوية، أصبحت بمثابة جسر لنقل العتاد والجنود ، وكانت حسب شهود عيان تحمل يوميا ما يقارب 40 آلة عسكرية ، وكان طبيعيا ان يحدث الاحتكاك مع السكان، حيث أقام بعض الشباب التندوفيين علاقات مع هؤلاء الأجانب وتعرفوا عليهم عن كثب . إذ يروي المناضل الشيخ حمادي ابن عاشور أنه تعرف إلى أمريكية وأهدته دولار مازال محتفظ به إلى اليوم، ولدينا صورة عنه في الملاحق, وانه كان لها الفضل في إثارة عواطفه الوطنية ، حيث عرفته كيف نال الأمريكيون استقلالهم بعد كفاح مرير وان الحرية شيء مقدس لدى الإنسان عليه ان يسعى جاهدا للحصول عليها .
كما كان للدعاية المغرضة ضد فرنسا التي نشرها الألمان تأثير واضح على وعي المستعمرات ومنها منطقة تندوف، خاصة من خلال نشر أخبار كاذبة عن انهزام فرنسا, والدعوة إلى التحرر من الاستعمار، وساهم بعض المنفيين في التعريف بكفاح الحركة الوطنية كما حصل احتكاك بين بعض التندوفيين ومناضلي الحركة الوطنية في منطقة بشار التي نشط بها حزب حركة الانتصار،
وهذا كله ساهم في تنوير الشباب التندوفي وفي اقدامه على احتضان النظال الوطني، وذلك باظهار تضامنه مع القضايا الوطنية وانخراطه في الاحزاب الوطنية، ويمكن القول أن الشعور بروح الانتماء وحب خدمة الوطن كانت المحرك الأساسي لهؤلاء الشباب الأشاوس الذين تحدو كل الصعاب ليثبتوا أنه لا مستحيل مع الإرادة ولا يأس مع الحياة، و كل هده الدوافع جعلت من تند وف قلعة من قلاع الكفاح الوطني
وقد كانت السلطات الاستعمارية تمارس تعسفاتها على أبناء المنطقة، وتحاول التفرقة بين قبائلهم، وتحتكر المناصب الادارية للمواليين لها مع إهمال بقية السكان، وهذه السياسة اثارت حفيظة السكان اضافة الى العاملين مع الادارة الفرنسية في اطار فرقة المهاريسة، والذين قدمت بهم من منطقة تبلبالة سنة 1934 وكان منهم أبو المجاهد ابن عاشور الذي يعد أبو الحركة الوطنية في المنطقة رغم أصوله الغير تندوفية وهدا ما يفند أن الروح الوطنية لا تنسب إلى أي جهة معينة إنما هي عملة واحدة لا تقبل التجزئة .
كما تواجد بعض المناضلين المنفيين الذين ساهموا بخبرتهم في توعية الشباب التندوفي وإرساء قاعدة توجيهية لهم، أسهمت في ارساء التنظيمات الاولى للحركة الوطنية قبل ان تنضج وتخرج إلى النور سنة 1947.
المطلـب الثـاني : تأسيـس خلايا حزب حركة الانتصار بالمنطقة .
انطلاقا من الظروف والدوافع التي سردناها اجتمعت ارادة المناضلين في تندوف على انشاء خلايا لحزب حركة الانتصار، حيث يقول المجاهد حمادي أنه تشاور مع مجموعة من المناضلين ممن روادتهم فكرة السياسة مثل ( حمى ولد مولود , الدح ولد محمد الصغير , عبد الوهاب , كفان ,منصور , زر بيع , ع جنة , مولاي إبراهيم , أللود ولد المواغ ...الخ) حول موضوع انشاء النظام الوطني، وانهم اجتمعوا وقرروا تشكيل فرع أو تمثليلية تمثلهم، وتقرر دهاب حمادي إلى بشار سنة 1947 للاتصال بمناضلي حزب الشعب، وفعلا التقى بالتهامي تهامي الذي سلمه وثائق تتعلق بإنشاء خلية للحزب في تندوف، وكذلك وثائق تتعلق بالحملة الانتخابية فعاد بها حمادي محمد إلى المنطقة. وهكذا بدأت مرحلة تأسيس الفرع، حيث اجتمع المناضلون خفية في إحدى المنازل، وقرروا انشاء المكتب والشروع في النضال السري، وقد شكل المكتب من العناصر الاتية :
- الكتاب العام , عفان ميلود عمرة 32 عام ورقمه 37,
- خليفة الكاتب العام ,
- عبد الرحمان محمد الصغير عمره 22 عام رقم 38
- برزاز السكلوت رقم 39 عمره 22 ,
- الخز ناجي ؟ رقم 40 عمرة 20, وخليقته محمد بن مولاي رقم 41 العمر 17 سنة ,
- رئيس المكتب سيد لحسن رقم 04 عمره 81 سنة وهو الرئيس الفعلي للمكتب حسب الوثائق .
وبعد تأسس الفرع أصبح من الضروري إنشاء مقر للحزب، حيث أنشأ مقر بالاشتراكات الرمزية التي جمعت، وبني بطريقة ذكية كما يقول حمادي حيث بنى الجدار إلى جزئيين وتركت فتحة من الداخل ،حتى يتسنى الهروب منها في حالة مداهمة السلطات الفرنسية للمنزل، كما يكون مخزنا امنا للأرشيف، وهذا ما ساعد على حفض الارشيف الذي فحصنا جزء منه واستفدنا من معلوماته القيمة .
وشع العمل في جمع الانخراطات والقيام بالحملة الانتخابية وتشجيع المناضلين على الانخراط والترشح للانتخابات، وقد وضع المناضلون إستراتجية لحماية نشاطهم من الاكتشاف، وذلك بتعيين مكتب آخر احتياطي يخلف هدا المكتب في حال اكتشافه من طرف العدو أو اعتقال أحد القياديين في المكتب، وكذلك ظروف المنطقة كالبعد الجغرافي وقلة المواصلات، لذا فقد نجحت هذه الفكرة,ونجا نشاط الفرع من الانكشاف وتواصلت المسيرة النضالية، ولقد تكون المكتب الاحتياطي من : (سلماني سليمان, حمد ولد مولود, محمد البشير ولد الخليل , ع جنة ولد زر بيع ...الخ)
وكذلك كانت طريقة الانخراط في الحزب سرية للغاية والدليل على ذلك أن المنخرطين يكونون في الغالب من المقربين والموثوق بهم فقط، ولدينا في الملاحق صور عن الاشتراكات وأسماء بعض المنخرطين في دلك الوقت، وكانت الحركة النضالية نشيطة، بحيث عثرنا كذلك على وثائق تبين طريقة تنظيم الاجتماعات والتحفظ التام على المكان حتى في الوثيقة، وشروط الانخراط ، وواجبات التكتم ...الخ
لقد اتبع الحزب ومناضلوه صرامة في المواعيد وحددت عقوبات للذين يتأخرون دون عذر، حيث كانوا يدفعون غرامة مالية على حسب الجنحة المرتكبة إما تغيب أو تأخير, وكل هذا من اجل غرس روح الانظباط والنظام، كما ننوه كذلك بالتسيير المالي الجيد للفرع، حيث توضح الوثائق المنشورة في الملاحق كيفية جمع التبرعات والإعانات من طرف التجار والحرفين في المنطقة، ونصاب كل شريحة، وحجم النفقات والمداخيل...الخ.
كذلك قام الحزب بتشكيل لجنة مراقبة لمراقبة سلوكيات بعض المنخرطين ولا سيما المنافية منها للانضباط والتصرفات اللامسؤولية، أو عدم مراعاة الأخلاق العامة في المجتمع , وشكلت ايضا لجان التشجيع على الانخراط وشيئا فشيئا توسع التنظيم وأنشأت فروع أخرى محلية تتبع الفرع الام وكل هذا دون علم المستعمر.
المطلب الثالث: المشاركة في انتخابات 1948 :
لقد كانت أولى الإنجازات التي أنجزها الحزب قبل إعلانه الترشيح في الانتخابات ضمه لمجموعة من المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي، وذلك تحت أسماء مستعارة، ولقد ساهموا بشكل كبير في تنشيط الحزب وتشجيع المناضلين وإبعاد أنظار المستعمر عنهم قدر المستطاع,
وتمكن الفرع كذلك من الاتصال بقيادة الحزب في وهران، حيث عثرنا على وثيقة تبين ان بعض المناضلين كانوا على اتصال مستمر مع القيادة العليا
في 1947 كما هو معروف أعلن عن تنظيم الانتخابات المحلية البلدية في جميع مقاطعات الوطن، وكانت تندوف حاضرة لاول مرة بعد ان الغى دستور 1947 النظام العسكري،ا فقدمت كل الأحزاب السياسية ترشحها، ومن ضمنها حزب انتصار الحريات، الذي قدم لائحة برئاسة رئيس المكتب, وعليه بدأت الحملة الانتخابية في أوساط السكان, وشرع في نشر وثائق الحزب التعريفية المستقدمة من بشار، وتواصلت الحملة والتعبئة الجماهيرية بحماس إلى يوم الاقتراح.
حيث جرت الانتخابات في جو مفعم بالحماس الشعبي ففازت قائمة انتصار الحريات دون بقية القوائم الأخرى رغم محاولات الاستعمار دعم القوائم الأخرى (حزب البيان والحزب الشيوعي، المستقلون ), وهكذا نجحت قائمة الحزب وتولت تسيير بلدية تند وف لاول مرة
وقد اغتر المناضلون بهذه السياسة الفرنسية, ففي حين انها اكدت قوة تمثيل التيار الاستقلالي فقد مكنت من التعرف على المناضلين الخطرين في نظر فرنسا واستعدت لتصفيتهم، وقد علق احد المناضلين على ذلك بالقول :" كانت تحاك خدعة, أراد الاستعمار بكل نذالة معرفة الطاقم الذي يحرك الروح الوطنية في تلك الناحية الصحراوية، ويحرك الجماهير بالانتخابات التي شاركت فيها الأحزاب لكن دون جدوى, حيث كانت المؤامرة عامة لم تقتصر على تيندوف فقط.
فقد قام المقيم العام أدمون مارسيلان نجلان بعملية تزوير شاملة لانتخابات أو صعود من هم موالين لفرنسا من نخبة وأحزاب وخونة، وهو ما يشير اليه السيد أحمد توقين بالقول: إن المقيم العام بعد سنة من عملية التزوير في 1949 نجي من محاولة اغتيال حيث أتى إلى معسكر لتدشين نصب تذكاري فوضعت مجموعة كمندوس لوس المنظمة الخاصة, ديناميت تحت النصب لكن الرطوبة أكلت السلك فلم ينفجر اللغم وبالتالي نجي من محاولة الاغتيال هذه.
المبحـث الثالث: رد فعل الاستعمار وكيفية الموجهة من طرف الحركة .
المطلـب الأول: إبعـاد ونفي المعتقليـن.
لقد رأينا كيف حدثت عملية تزوير الانتخابات والهدف من الانتخابات أساسا في هذه المنطقة المعزولة ونحاول ان رصد ردود الفعل الفرنسية, وقد دبرت مؤامرة للقضاء على الخلايا الثورية بالاعتقال والنفي، حيث يذكر المناضل احمد تواقين بلسان المجاهد والمرحوم حمادي بن عاشور ان معمر العسلاوي وهو أمالاز لدى الاحتلال الفرنسي أشعر والد محمد بن عاشور بأن ثمة مؤامرة تحبك ضد مناضلي الحزب, وعلى أعضاءه أخذ الحيطة والحذر من رد فعل السلطات الاستعمارية، خاصة بعد الفوز الساحق في لحركة الانتصار في الانتخابات, فقام باخفاء الوثائق وأرشيف الحزب داخل جدار المقر واستطاع بذلك المحافظة على الموروث التاريخ إلى يومنا هذا والذي استفدنا حقا منه لدراسة هذه الحقبة
وما هي إلا أيام قليلة بعد إعلان النتائج وتعيين قائمة الناجحين (1948) حتى شرعت السلطات العسكرية في اعتقال أغلب مناضلي الحزب في ثكنة وارسو( ROR J rosseue ) واضطربت البلدة وعمها الهلع، فبادر بعض القياد وأعيان بلدة تندوف بالتوجه إلى الحاكم العسكري فوجير fojer ، وناشدوه أن يكون حكيما في الحكم على هؤلاء المعتقلين، خاصة وان ثمة إشاعات تقول بامكانية اللجوء لاعدام بعض المعتقلين، واقترحوا عليه تخفيف الاحكام الى النفي والإبعاد عن البلدة, وقد استجاب الحاكم لمطلبهم واصدر احكاما بالنفي.
وقد طال النفي عددا كبيرا من المناضلين بعد محاكمات ملفقة وصورية، وصدرت الاحكام بالنفي وفق الشكل الأتي:
1- الفوج الأول من المبعدين: اعتقلوا ثمانية أيام في برج وارسو حتى مقدم شاحنات نقل البضائع الرابطة بين أغادير المغربية وتندوف، حيث نقلوا بوحشية إلى المعتقلات عبر رحلة غير إنسانية، إذ قام المستعمر بشحنهم مع البضائع.
-الدفعة الثانية : قامت السلطات الاستعمارية بإبعاد مجموعة من المناضلين نفيا الى بشار (كلومب بشار)، وذلك تحت حراسة مشددة من طرف الجيش الفرنسي
-الدفعة الثالثة : وتضم مجموعة من المناضلين اعتقلوا بزنزانات تندوف، ثم نقلوا نفو بعد فترة إلى موريتانيا،
وهكذا اعتقد المستعمر انه انتهى نهائيا من مناضلي حزب حركة الانتصار الذين يحملون فكرة الوطن المستقل، وووضع حدا للافكار الوطنية في هذه المنطقة النائية التي لا تخضع لاي قانون بل لسلطة الحاكم العسكري، لكن هل وضح حد للنضال أم ان الافكار التي غرست لم يكن من السهل اقتلاع جذورها ؟
المطلـب الثاني : استمـرار النضـال السياسي في تندوف.
بعد اعتقال المناضلين وحملات الدهم والمراقبة وتضيق الخناق على المناضلين الباقين قرر الحزب تجمبد نشاطه الى حين، وظلت الخلايا النائمة تنتظر ساعة الجهر بنشاطها.
وقد اصبح العمل السياسي في منطقة تندوف شبه مستحيل بالنظر إلى الضربة الموجعة التي وجهت للمناضلين، وزيادة عدد الجنود في قلعة وارسو والرقابة الشديدة, ولهذا واصل كثير من المبعدين نشاطهم خارج المنطقة، حيث اتصل المناضل حمادي بعد نفيه إلى بشار بالمناضل المرحوم (التهامي تهامي) واستئنف نشاطه الحزبي هناك, ولم يثنه الاعتقال والاضطهاد الذي تعرض له عن مواصلوة نشاطه السياسي، وقد كلف بمسؤولية الإعلام في خلية بشار
وفي سنة 1950 القي على القبض على المناضل حمادي، وقضى مدة ثلاث أشهر في الاعتقال بتهمة الاعتداء على شرطي وهي تهمة ملفة له، كما فرضت عليه غرامة باهضة بقيمة 5000 فرنك فرنسي وصودر متجره ، ورغم كل ذلك واصل نشاطه في الحزب، حيث يقول أنه وردت عليه في مارس 1951 برقية تدعوه للتظاهر على الساعة :23:00 لدى خروجهم من سينما (RX) , حيث كان هو المسؤول عن الإعلام وكريم بشير مسؤول النظام فأعلم المناضلين بالمهمة، ولكن قبل أسبوع من الموعد المحدد وردت برقية تلغي الامر بالتظاهر، ونظرا للبعد الجغرافي لم يتسنى اعلام كل المناضلين، ولما حل يوم الاثنين خرج المتظاهرون من السينما ينادون بإطلاق سراح المعتقلين ومنهم محمد خيضر النائب عن حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية، وقد حاول المعمر (ميرا صولي ) اختراق صفوف المحتجين بضوء سيارته، فتقرب منه أحدهم وطعنه بسكين توفي على إثره .
وفي اليوم الموالي ألقت السلطات القبض على كل المناضلين ولم ينجوا إلا فرع الإعلام الذي استلم البرقية، حيث بلغ عدد المعتقلين 120 معتقل تقريبا
زج ببعضهم في السجن المدني بمعسكر ونقل الآخرون إلى سجن تازمالت بباتنة، وأصدرت أحكام تتراوح بين 5إلى 15 سنة سجنا في حق هؤلاء، ونذكر منهم كريم بشير (من المشربة )ب15 سنة، وكذلك المناضل والوزير الأسبق سعيد عبادو الذي توصل نضاله على حسب شهادته إلى غاية إلقاء القبض عليه بعد تفجير الثورة، وعلى الرغم من انه من منطقة بسكرة الا ان النضال جمعه مع اخوانه في بشار
وقد سجن حمادي مرة أخرى في سنة 1956، حيث عزمت فرنسا على إلقاء القبض على كل المناضلين السياسيين , ولما علم بذلك عقد العزم أن يلتحق بالثورة على الحدود المغربية لكن الشاحنة لم تأته فاتصل بأحد العمال في السكة الحديدية بضواحي بشار فطلب منه المساعدة، وبعد ذلك وفي الساعة العاشرة ليلا ألقي عليه القبض ثم نقل إلى محافظة الشرطة ببشار حيث استنطق وعذب بفظاعة, ثم نقل إلى معسكر مدة شهر، ثم أطلقت سراحه بعد الحكم عليه بالبراءة ثم أعيد إلى بشار لتفرض عليه لإقامة الجبرية فيها سنة 1958 بعد رحلة كبيرة من المعتقلات ابتداء من سجن القبائل (CAMPDEMARECHAL ) (كان دومار يشال ) بتدمايت ثم على بشار سيدي ألشحمي اليوم
وخلال مرحلة النفي حاولت السلطات الفرنسية اغرائه ليشارك في مناورة فصل الصحراء، حيث استدعاه الضابط المدعوا "أوتي"، وقال له: اسمع جيدا لا تمارس السياسة وبالمقابل سنعيد لك متجرك، ويذكر حمادي ذلك بالقول :"بعد أيام استدعاني محافظ الشرطة وقال لي: لقد عزمنا أن تنظم إلى الجماعة التي تطالب بفصل الصحراء عن الشمال وهذه الفكرة تبين ماذا جدية الاستعمار على مطالبة بالفصل الصحراء من اجل إقامة دولة مستقلة له, لكنه رفض هذه المبادرة واستمر في نضاله السياسي رغم الإقامة المفروضة والضغطات التي تعرض إليها.
المطلب الثالث : موقف المناضلين من أزمة حزب إنتصار الحريات الديمقراطية .
في سبتمبر 1953 وقعت مشاكل كبيرة في صفوف حركة ‘انتصار الحريات الديمقراطية أدت إلى انشقاق في هذا الحزب، فقد طالب ميصالي الذي كان منفيا في فرنسا من اللجنة المركزية للحزب منحه كامل الصلاحيات لتسيير الحزب، لكن المركزيين رفضوا ذلك ودعوا في المؤتمر الذي عقد في أفريل 1953 الى بعث الديمقراطية في الحزب ونبد تكريس الحكم الفردي في الحزب ، وبذلك انقسم الحزب على قسمين
- قسم مناصر لميصالي عقد في هورنو البلجيكية مؤتمر تقرر فيه حل اللجنة المركزية للحزب وإعلان مصالي رئيسا مدى الحياة وذلك في يوليو 1954
- وقسم اللجنة المركزية الداعي الى الحكم الجماعي للحزب، والذي عقد عقب مؤتمر هورنو مؤتمر الجزائر بين 13 إلى 16 أوت، وقرر عزل مصالي وتجريده من كل صلاحياته,
وعندها وصل الصراع ذروته ظهر قسم ثالث عناصره من مناضلي اللجنة الخاصة، وهو يدعوا الى العمل المسلح والقيام بالثورة لان العمل السياسي النقابي لم يعد يجدي نفعا، وشرع بالفعل في التحضير لاندلاع ثورة نوفمبر 1954
إن هذه الأحداث قد انعكست سلبا على عمل الحزب ووحدته، فهذه الاختلافات بدأت تتسرب الى القاعدة النضالية وتثير اليأس في نفوس المناضلين، وقد حاولت فروع المناطق الجنوبية للحزب، مثل فرع عين الصفرة الذي كانت تابعة له كل مكاتب : بشار, تند وف, أدرار ان تحافظ على استقرار هذه المكاتب لتواصل نشاطها السياسي, وتثبت الشهادات التي أدى بها بعض المناضلين أنهم كانوا على دراية تامة بما كان يقع في هرم الحزب، وانهم حاولوا عدم التأثر بما يحصل من خلافات وصراعات، وهذا ما مكنهم من الحفاظ على وتيرة نشاط هذه المكاتب
ولم يتأثر المناضلون بالمشاكل والخلافات الإيديولوجية التي كانت تشغل سلطة الحزب العليا ، وذلك بحكم أخلاصهم لمبدأ تحرير الوطن واستماتتهم من اجل مبادئ الحزب، وفي هذا الشأن يؤكد المناضل محمد حمادي قائلا :" قرأت في كتاب مازال عالقا في دهني إلى اليوم للكاتب سليمان فرقد بوجناح حيث يقول فيه ( إذا كنت مؤمنا بهدف نبيل فلا يهمك أن تكون في نظام حزبي أو خارجه ) بل قم بواجبك ولا يهمك غير ذلك " ، وانطلاقا من هذه المقولة التي كان المناضل يكررها ركز هو وزملائه على وحدة الصف ومواصلة الكفاح دون التأثر بالمشاكل التي وقعت داخل الحزب والعمل على نصرة الثورة التي انطلقت لتحقق الهدف الأساسي وهو الاستقلال.
وبذلك استطاع المناضلون المخلصون إبطال محاولات ضرب الحركة الوطنية بهذه الجهة من الوطن، والتي اعتبرت إلى وقت قريب مفصولة عن المناطق الشمالية حسب مزاعم الأستدمار،وذلك بتعزيزه للأطروحات الجهوية وسياسة التفرقة والأغراء. وسوف تكون هذه الأرضية صالحة لمواصلة الكفاح في أطار الثورة التحريرية كما سيأتي بيانه
المطلب الرابع :مشاركة المغاربة في الكفاح السياسي الجزائري في منطقة تندوف.
عندما تشكلت أول خلية لحركة انتصار الحريات الديمقراطية في تندوف وترسخ الوعي السياسي ساهم كثير من المناضلين في نشر الأفكار التحررية بكل المناطق المجاورة مثل جنوب المغرب وموريتانيا وحتى مالي، وبذلك أعطيت الفرصة للمغاربة الذين كانوا متواجدين بالمنطقة (معتقلين سياسيين وتجار وعمال في الجيش الفرنسي) لاغتراف هذه الأفكار الاستقلالية ونقلها الى المغرب .
وقد وجد المناضل المغربي في حركة الانتصار حزبا سياسيا يدعو إلى الوحدة الإسلامية ومحاربة الاستدمار والوحدة المغاربية، فأمن بهذه الافكار وعمل على نشرها ونقلها الى المغرب، وقد ساهم المغاربة في العمل التنظيمي وإعطاء أفكار جديدة لتطوير العمل السياسي وكشف مشاريع الاستعمار الموحد, وقد انضموا إلى الحزب بأسماء مستعارة، وكانوا يحضرون الاجتماعات خفية حتى لا يكتشف من طرف الإستدمار.
هذا العمل الوحدوي والتلاحم المغاربي لم يكن وليد تلك الفترة، بل جسده مؤتمر طنجة عام 1945,الذي ضم من الاحزاب الاستقلالية المغاربية , فمن تونس كان الحزب الدستوري, ومن الجزائر حركة انتصار الحريات, ومن المغرب حرب الاستقلال، وكان هدف هده الأحزاب هو توحيد عملها النضالي لمواجهة العدو وانتزاع استقلالها منه لتحقيق السيادة الترابية لكامل المغرب العربي .
ولكن بعد استقلال المغرب تأثر نظامه بالسياسة الفرنسية فاصبح يدعوا المغاربة الى تشجيع فكرة ظم تندوف الى التراب المغربي، وقد تفطن المناضلون الجزائريون لذلك وضربوا هذا المشروع الجهنمي الذي كان يهدف الى زرع الفتنة واتاحة الفرصة للمستعمر لفصل المنطقة الغنية بالثروات وجعلها تابعة رأسا لفرنسا كما تفعل اسبانيا بسبتة ومليلية إلى اليوم.
وهذه هي سياسة الاستعمار مند الوهلة الأولى وخاصة بعد إعلان الثورة فقد خطط لفصل الصحراء عن الجزائر لأسباب اقتصادية، ذلك ان ثروات المنطقة كانت مغرية للاقتصاد الفرنسي، كما كانت مغرية للنظام المغربي الذي كان يبحث عن استقلال اقتصادي فضغط على المستعمر مطالبا بحرية التجارة والاستفادة من ثروات تندوف المنجمية .